خمسة وثلاثون عامًا مرت منذ نشأة العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية في 21 يوليو 1990، تحول خلالها التعاون بين البلدين من علاقات تجارية محدودة إلى شراكة إستراتيجية شاملة تمتد إلى الصناعة، والطاقة، والبنية التحتية، والتعليم، والسياحة، والتقنية. ومع دخول العقد الرابع، أصبحت هذه الشراكة ركيزة أساسية لتحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030 وامتدادًا عمليًا لمبادرة الحزام والطريق الصينية.
تُظهر البيانات الاقتصادية أن الصين حافظت على موقعها كشريك تجاري أول للمملكة للعام الثاني عشر على التوالي، إذ بلغ حجم التبادل التجاري الثنائي في عام 2024 نحو 107.5 مليارات دولار أمريكي. وتنوعت بنود هذا التبادل لتشمل الطاقة والمنتجات الصناعية والمعدات التقنية، مما يعكس توازنًا اقتصاديًا متناميًا بين المورد السعودي والمصنع الصيني.
وفي المجال الاستثماري، تجاوزت الاستثمارات الصينية المباشرة في المملكة 8 مليارات دولار عام 2024 بزيادة تقارب 30 % عن العام السابق، فيما وُقّعت اتفاقيات تمويلية بقيمة 50 مليار دولار بين صندوق الاستثمارات العامة وعدة مؤسسات مالية صينية، لتوفير قنوات تمويل طويلة الأمد لمشاريع الطاقة والبنية التحتية والقطاع الصناعي. وتأتي هذه الأرقام لتؤكد الانتقال من مرحلة «التجارة» إلى مرحلة «الشراكة الشاملة».
تُعد الشركات الصينية من أبرز المساهمين في بناء البنية التحتية الحديثة للمملكة، إذ تنفذ شركات مثل تشاينا هاربور للهندسة وساينوهايدرو وباور تشاينا وتشاينا إنيرجي وسي إس سي إي سي عشرات المشاريع الكبرى في مختلف المناطق، تشمل تطوير الموانئ والطرق والجسور والمجمعات السكنية والمناطق الصناعية. وتمثل هذه المشاريع العمود الفقري للتنمية العمرانية التي تشهدها المملكة ضمن خططها للتحول إلى مركز لوجستي عالمي يربط آسيا بأفريقيا وأوروبا.
وفي قطاع الصناعة والبناء الحديث، أسهمت الشركات الصينية في إدخال أنظمة التشييد المعياري، وتقنيات الأتمتة والذكاء الصناعي، مما أسهم في تقليل مدة التنفيذ ورفع كفاءة الإنتاج وخفض الفاقد في مواد البناء. كما توسعت هذه الشركات في إنشاء المصانع الذكية داخل المملكة، لتسهم في نقل التقنية وتوطين الصناعة وخلق فرص عمل نوعية للسعوديين.
وفي مجال الطاقة، أصبحت الصين الشريك الأكبر للمملكة في مشروعات التحول إلى الطاقة النظيفة، حيث تعد أكبر مصدر للاستثمار الأخضر في السعودية بين عامي 2021 و2024 بإجمالي تجاوز 21 مليار دولار، شملت مشاريع في الطاقة الشمسية والبطاريات والهيدروجين الأخضر. هذه المشاريع تسهم في تحقيق أهداف الحياد الكربوني بحلول عام 2060 وتعزز موقع المملكة كمركز رائد للطاقة المستدامة.
أما في مجال التعليم والبحث العلمي، فيتزايد التبادل الأكاديمي بين البلدين عامًا بعد عام. إذ يدرس أكثر من ألف طالب سعودي في الجامعات الصينية في تخصصات الهندسة والطاقة والذكاء الصناعي، بينما تستقبل الجامعات السعودية مئات الطلاب الصينيين سنويًا ضمن برامج المنح والتبادل الثقافي. هذا التعاون المعرفي يشكل جسرًا بشريًا يضمن استدامة الشراكة الاقتصادية والعلمية في المستقبل.
وفي الجانب الثقافي والسياحي، تشهد العلاقات تطورًا ملموسًا، إذ بلغ عدد الزوار الصينيين إلى المملكة عام 2024 نحو 140 ألف زائر، بزيادة كبيرة بعد إدراج السعودية كوجهة سياحية معتمدة لدى الصين. كما تسهم فعاليات التبادل الثقافي والمعارض المشتركة في تعميق الفهم المتبادل بين الشعبين، وترسيخ العلاقات الإنسانية إلى جانب الشراكات الاقتصادية.
أثبتت التجربة أن العلاقات السعودية الصينية لم تعد مجرد أرقام في جداول التجارة والاستثمار، بل أصبحت نموذجًا متكاملًا للتعاون التنموي القائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. فالصين ترى في المملكة شريكًا استراتيجيًا في تأمين الطاقة والاستثمار في الأسواق الواعدة، بينما تنظر السعودية إلى الصين بوصفها قوة صناعية وتقنية تسهم في تحقيق تحولها الوطني نحو الاقتصاد المعرفي.
مستقبل العلاقات بين الرياض وبكين يزداد رسوخًا مع اتساع قاعدة التعاون بين الحكومات والقطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية. ومع استمرار المشاريع المشتركة في مجالات الصناعة، والطاقة، والبنية التحتية، والتقنية، فإن التحالف السعودي الصيني يتجه بثبات نحو مرحلة جديدة من التكامل والإبداع المشترك في بناء التنمية المستدامة.
لقد صدق كونفوشيوس حين قال، «الطريق الطويل يبدأ بخطوة، والثقة هي أول تلك الخطوات».
واليوم، وبعد 35 عامًا من الخطوات المشتركة، تبدو الثقة بين السعودية والصين أقوى من أي وقت مضى.. ثقة تُبنى بها التنمية وتُصنع بها شراكة المستقبل.










